بين الأنظمة الشمولية والديمقراطية

د. هادي حسن عليوي

 

في مفهوم الديمقراطية

تعددت تعريفات الديمقراطية، فيعرفها ابراهام لنكولن بانها”حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب” اما بوردو فيعرفها”بانها نظام حكم يهدف الى ادخال الحرية في العلاقات السياسية “ وهناك عشرات التعريفات الاخرى، نستطيع من خلالها القول انه لا يوجد تعريف جامع مانع للديمقراطية صالح لكل زمان ومكان، لكن ذلك لا ينفي ان للديمقراطية قوانين وقيماً لا بد من مراعاتها وهي: الحرية، المساواة، العدل، التسامح، الرفاهية..

ويمكن القول الى ان ما اورده محمد عبدالجبار الشبوط يعد تعريفاً شاملاً للديمقراطية السياسية المعاصرة، اذ يرى انه، خيار سياسي اجرائي لتنظيم عملية تداول السلطة في المجتمع الانساني، كونه مجتمعاً مستقراً من الناحية السياسية.. هذا على اساس ان الديمقراطية في معناها المعاصر تعني: تلك المنظومة من الاليات المحايدة الهادفة الى تنظيم عملية تبادل السلطة بطريقة سلمية ودورية وعلى اساس الاختيار الشعبي المتمثل بالانتخابات، وهي بهذا حلاً سلمياً لمسألة الصراع او التدافع في المجتمع الانساني على السلطة والنفوذ والحكم، وهي بهذا تفترق عن الحلول الاخرى لهذه المسألة، التي تتصف بالعنف والدموية.

لقد اصبحت الديمقراطية في عصرنا، ضرورة لا مناص من اللجوء اليها لمواجهة الانظمة الشمولية، التي فرضت هيمنتها على دول وشعوب العالم الثالث، لقد عرفت البشرية انظمة مختلفة. ليتبارى نظامان يسودان العالم المعاصر، النظام الشمولي القائم على تركيز السلطة بيد فرد او حزب واحد، فرض نفسه على شعبه بالقوة. ويمارس السلطة بشكل بغيض واستبدادي. ونظام ديمقراطي يختاره الشعب، عبر انتخابات حرة ونزيهة ودورية، ويعد افضل صيغة للحكم وطريقاً صائباً لتقديم ونهضة الامم.

اذ نلمس في الدول الديمقراطية معالم الرقي في جميع الميادين الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاخلاقية، فيما يذهب العقاد الى ان من دعائم السلام العالمي شيوع الحكم الديمقراطي بين الامم، مؤكداً ان انتشار الديمقراطية هو مصل واق من الحروب، او مخفف للاصابة بها ولو بعض التخفيف وشيوعها في العالم ينصف الامم الضعيفة كما ينصف الافراد الضعفاء.

في مفهوم الأمن

 ومثلما تعددت تعاريف الديمقراطية تعددت تعريفات الامن، فهناك الامن الداخلي والامن الخارجي وهناك الامن بمفهومه السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي او امن المعلومات، وامن المؤسسات ليتوسع مفهوم الامن وآلياته شاملاً كل مرافق الحياة: وهذا لا يعني ان الامن هو نشر القوات المسلحة مهما اختلفت مسمياتها في الشوارع والمدن. على الرغم من اهمية الاجهزة الامنية كادوات تنفيذية لحفظ الامن وحماية المواطن ومحاربة الجريمة.

ومن تعريفات الامن ما ساقه”والترليجان “ عن تعريف الامن الوطني قائلاً:”انه عدم التضحية بقيم الدولة الجوهرية مركزاً على الجوانب العسكرية فقط “ في حين زاد عليه” فردريك هارتمان ليشمل”جوهر المصالح الوطنية الحيوية للدولة “ أما (جيرالد هويلر) فيعرفه على انه (حماية الدولة ضد جميع الاخطار الداخلية والخارجية التي تؤدي  بها الى الوقوع تحت سيطرة ما نتيجة ضغوط معينة محددة أو انهيار داخلي بينما عدها آخرون بمنزلة  (الشعور المتجانس بالثقة والاطمئنان) واتجه بعضهم الى القول أن الامن الوطني هو (قدرة الشعب على حماية قيمه الداخلية من التهديدات الخارجية).

ومن التعريفات الاخرى فالامن” ركيزة اساسية من ركائز المجتمع يستمد منه الافراد الاستقرار والتقدم، كما انه يتناسب مع تقدم المجتمع وامنه تناسباً طردياً “ ويعد الامن المحور الاساسي بجانب كبير من قضايا التنمية في المجتمع من خلال استتباب الامن واستقراره وسيادة العدل الاجتماعي بين افراده.

 ويبقى ان الغالبية العظمى من المفكرين  والمخططين  للامن عرفوه دون تمييز في شكل نظام  الحكم، فالنظام الشمولي يختلف في نظرته الى الامن الوطني ويعتبره امن نظامه فيما نظرة النظام الداخلي تعتبر الامن الوطني هو حماية المجتمع والديمقراطية والقانون من عبث اعداء الديمقراطية خاصة في ظروف بناء الديمقراطية او الحروب.

العلاقة بين الامن والانظمة لشمولية

تنطلق الانظمة الشمولية من نظرتها لدور القوات المسلحة كمستودع اساسي للقوة، وبالتالي كضامن نهائي لامن النظام الحاكم،  فمعظم الانظمة الشمولية تحافظ  على وجود اجهزة امن تختص في مراقبة وملاحقة الخصوم المحتملين للنظام، وفي كثير من الاحيان  تكون هذه الاجهزة كيانات عالية التدريب والكفاءة، لكنها مع ذلك، غالبا ما تضطر الى القيام  بأدوار يتطلبها  هذا النظام، وهي التجسس على المواطنين ومراقبة حركاتهم والقيام بأعمال غير مشروعة ولا تقرها  في احيان عديدة، قوانين النظام نفسه، سواء بالاعتقال الكيفي والاعدامات الجماعية كما جرى في عهد هتلر وموسوليني وستالين وحافظ اسد وصدام .. وتخصص الانظمة الشمولية تخصيصات مالية ضخمة جدا على حساب تنمية البلاد وتطويره  لهذه الاجهزة الامنية لغرض التدريب الجيد ورفع الكفاءة واستقدام  احدث التقنيات في مجال الاستخبارات والامن لتصبح  هذه الاجهزة الحارس الواقعي في وجه المعارضة الشعبية. كما ان قيادات  هذه الانظمة تقرب قادة هذه الاجهزة وترعاهم وتغدق  عليهم الاوسمة والنياشين والاموال والترقيات  حتى السماح لهم بالقيام بنشاطات محرمة  من قبل هذا النظام كادارة شبكات التهريب ونشاطات اخرى مرتبطة بالسوق السوداء مما يخلق فرصا كبيرة لتحقيق مكاسب شخصية للقادة العسكريين والامنيين، الذين يرتبطون اكثر فأكثر بهذا النظام ويصبح الدفاع عنه دفاعا عن امتيازاتهم ومصالحهم.

وفي العراق  عادة ما يكون على رأس هذه الاجهزة من اقارب الحاكم او من اقارب القبائل الموالية للنظام، اما الشيء الآخر الملاحظ على هذه الاجهزة فهو تعددها، حيث ان معظم  الانظمة الحاكمة لها العديد،  ان لم نقل العشرات  من اجهزة الامن والمخابرات، التي عادة ما يصعب الفرز بين حدود تكليفاتها وواجباتها، والتخاصم البيروقراطي الشديد بين هذه  الاجهزة المختلفة امر محبذ ويلقى التشجيع من رأس النظام من اجل ابقاء حالة التنافس بينها واحكام سيطرة النظام عليها، ان ابرز الادوار التي تقوم بها هذه الاجهزة في هذه الانظمة هي: المراقبة، وتعقب نشاط المجتمع المدني وتواصل رفع التقارير بصدد مصادر المعارضة المحتملة،  اضافة الى انها تراقب نشاطات بعضها بعضا، كما انها تكون وسائل بالغة القوة في يد النظام اثناء تنفيذه لسياسته التي لا تمثل طموحات شعبه.

العلاقة بين الامن والديمقراطية

ان العلاقة بين الديمقراطية والامن طردية فتعزيز الديمقراطية يعني تطبيق واحترام القانون وكفالة حقوق الانسان وتوسيع الحرية في جميع مفاصلها وسيادة ثقافة التسامح واحترام الرأي الاخر، والتداول السلمي للسلطة، والبناء والاعمار والرفاهية وبالتالي

 تعزيز للامن والاستقرار وانخفاض كبير في الجريمة بينما نجد العكس في النظام الشمولي فاستقرار حكم الفرد او الحزب قائم على اسكات الاصوات المعارضة وتحويل موارد البلد لغرض تعزيز الحكم وقوة الحاكم ومريديه، مما يتطلب اجهزة عسكرية وامنية كبيرة للحفاظ على هذا النظام الذي يحققه

المجتمع ويعارضه ويستخدم كل الوسائل للقضاء عليه.

ان غاية ما يتطلع اليه البشر، هي انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية التعبير والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة، لان احترام حقوق الانسان وتوفر امنه المادي والمعنوي، هما الطريق الافضل لتفجير الطاقات الكامنة وحيث ان مجتمعا محميا ديمقراطيا يكفل اكثر من المجتمعات الاخرى الاستقرار المطلوب لأية عملية انماء وتطوير لذلك فان الديمقراطية التي توفر مبادؤها وممارساتها الحماية الكافية لحرية الانسان، وبالتالي حماية امنه واستقراره، وبهذا الصدد يقول العالم الانكليزي (ستيوارت هيل):ـ (ان قرار الحكومة التي تدار بواسطة الامة تنفذ اكثر من احكام الدولة القائمة بنفسها، وان كل فرد من افراد الامة ممن يملك فكرا صحيحا وعقيدة واضحة هو بذاته دولة مستقلة قائمة على اساس الحرية ومن مجموع هؤلاء الافراد تتكون حكومة ذات جدارة عالية).

فهناك تلازم مصيري بين الديمقراطية والحرية فلا ديمقراطية بلا حرية وتطبيق لدستور وقوانين الدولة الديمقراطية التي تكفل هذه الحرية، من جانب، ومن جانب آخر فان تحقيق الديمقراطية مرهون بتحقيق النمو الاقتصادي، وبهذا الصدد يؤكد موقع وزارة الخارجية الاميركية على شبكة المعلومات الدولية، على الرأي القائل: (ان التنمية الاقتصادية تجعل الديمقراطية ممكنة)، في اشارة الى برهان مؤثر في انه يجب على الدول الفقيرة ان تنمو اقتصاديا قبل ان تتمكن من تعميم الديمقراطية، بيد ان المعطيات التاريخية تثبت العكس اذ نلاحظ ان.. الديمقراطيات الفقيرة قد احرزت نموا بسرعة تضاهي الانظمة الشمولية الفقيرة، بل تفوقت على الاخيرة تفوقا بارزا في جميع مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، فيما ابلت بلاءً حسنا في درء خطر الكوارث..

 ويعد تنفيذ مقولة (التنمية اولا، والديمقراطية لاحقا) امرا حاسما ليس بسبب خطأ المقولة فحسب، بل لانها ادت الى نشوء سياسات استبدادية بغيضة، ان تدهور الاوضاع الاقتصادية في العراق منذ اكثر من ثلاثة عقود، وافتقار اغلبية المواطنين العراقيين حريتهم الاجتماعية شكلا عائقا تجاه ممارسة افراد المجتمع لحقوقهم الانسانية وحرياتهم الاساسية، فالمجتمع الذي يتأزم وضعه الاقتصادي يتعرض امن افراده الى الخطر، وتتلاشى حرياتهم، كما يقول حسين جميل: ان الفقر يولد الخوف، والخوف يربي الشك، وهنا يبدأ الحاكمون بالخشية من الحرية، لانهم يشعرون ان المحكومين لم يعودوا في جانبهم، وانهم لم يعودوا يؤمنون بأساليبهم في الحكم، وانهم - اي المحكومين - يتطلعون الى شيء جديد، ويتوقون الى اوضاع تمكنهم من القضاء على العوز، فاذا لم يعمل الحاكمون على اصلاح النظم الاقتصادية بالطرق العقلانية، اضطروا الى اخفات صوت المحكومين القلقين بالقوة، ولجأوا الى العنف، ليتمكنوا من المحافظة على سلطانهم وامتيازاتهم.

ان ما ينقذ العراق من وضعه المتردي ومشكلاته المتأزمة هو السير بالعملية الديمقراطية بشكل حقيقي وشفاف والعمل على رص الصفوف ومشاركة كل القوى المؤمنة

 بالعملية السياسية والديمقراطية والنابذة للعنف والارهاب، وممارسة الديمقراطية، والتكيف مع آلياتها واحكامها وقواعدها ونتائجها، لبلوغ دولة المؤسسات السياسية والمدنية ودولة القانون وبغير ذلك يبقى الامن غير مستقر والفوضى السياسية قائمة والتوترات العرقية والطائفية تتعمق، مهما قُيل من استقرار في نجاح سياسي وتقدم اقتصادي!!.

** الساقية صحيفة الكترونية مستقلة   **

** المدير العام رئيس التحرير : ميشان سيدي سالم أعلاتي **

    M_FICHAL@YAHOO.FR      

ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***   ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***  ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا