السياسة الامريكية السابقة واللاحقة في منظورها "البراغماتي"

رزاق عداي

 

في كتابه "أعاقة الديمقراطية" يكتب- نعوم جومسكي- "عندما حررت الولايات المتحدة جنوبي ايطاليا- 1943-، اتبعت نصيحة تشرشل بان الاعتبار الاول ان يكون منع- الفوضى والبلشفية او الحرب الاهلية- أيدت الولايات المتحدة الملك الذي تعاون كلياً مع النظام الفاشي ومع دكتاتورية الجناح اليميني بزعامة المشير "بادليو" وهو من ايطاليا، تماماً كما قام روزفلت بتنصيب الفرنسي الفاشي "دارلان" في شمال افريقيا في اول المناطق التي حررت من السيطرة النازية. 

في مجمل هذه المواقف لم تبتعد امريكا عن فلسفتها المتبناة منذ قيام الكيان الامريكي القائم على اساس معياري مطلق يتمركز حول تحقيق النجاح في شتى نواحي الحياة النظرية والعملية، اما الرسوخ والمبادئ الثابتة فهي في منأى عن الممارسة خصوصاً على اساس الفعالية والنشاط السياسي، فالحروب التي خاضتها امريكا كانت مجرياتها خاضعة الى منطق التغير وفقاً للتفاعلات التي تجري على صعيد الواقع، كما ان التحالفات والتنصل عنها يأتي في مسار المنظور العملي- النفعي القائم على تحقيق النجاح كمعيار اساسي المقرر لتلك العملية او عدمها، وتجربة -الحكم في بنما- خير مثال حيث تحول الصديق "نوريغا" الى عدو في ليلة وضحاها وتم الانزال الامريكي السريع ليلتقط الرئيس "نوريغا" الى امريكا بسرعة مذهلة. 

وعندما تدخلت امريكا في الفيتنام في منتصف القرن الماضي بعد الفشل الفرنسي العسكري هناك، كان الهدف لهذا التدخل الامريكي بالسياقات السياسية الامريكية هو اعطاء درس الى شعوب جنوبي اسيا الناهضة وانتشار الايدولوجيا اليسارية هناك، وعند انسحاب الولايات المتحدة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي امام صمود الشعب الفيتنامي الباهر، لم يكن هذا الانسحاب في تصور المؤسسة الامريكية انذاك هزيمة، فوفقاً للاستراتيجية الامريكية انذاك، ان هناك مهمة انجزت على الصعد السياسية والعسكرية، وبذلك لم تكن هناك خسائر امريكية مجانية كما كان يصور المعسكر المعادي لامريكا، ولكن هذا الامر وفقاً للاستراتيجيات الامريكية لا يقف عند هذه النقطة او اللحظة الزمنية القائمة انذاك، انما الامر هو ابعد من ذلك اذ ان افق السياسة الامريكية بحسب المتغيرات عند افقها البعيد فمن المعروف ان الفيتنام من الدول التي لا تتمتع بأية جدوى اقتصادية تشكل جانب جذب يعزي الدول الكبرى لاستعمارها، اذن هناك تقاطع مع نوازع النزعة الاستعمارية، ولكن مقتضيات المرحلة التاريخية بتوازناتها الدولية ونزعاتها انذاك وسياقات الحرب الباردة التي كانت تستدعي ولاعتبارات الاستباق في الردع السياسي واعادة صياغة التركيبات والتكوينات التابعة لهذا او ذاك من تشكيلات الدول التابعة او المناوئة لهذا القطب او ذاك. 

فمن المعروف ان الفلسفة السياسية التي هيمنت على مسارات السياسة الامريكية تحتمه تعاليم التيارات "البرغماتية" العملية والقائمة على منطق النجاح بالدرجة الاولى كمعيار اساسي، اما المبادئ والقيم بالدلالات الاخرى الاخلاقية والقيمية فتأتي بالدرجات التالية، لهذا فالتغير في المسارات السياسية الامريكية تأخذ احياناً منطق المفاجاة والمباغتة او انها احياناً لم تكن تحت طائلة حسابات التوقع. 

اما المجريات الاخرى التي حصلت على صعيد المتغير الاستراتيجي والتكتيكي الامريكي وهي متغيرات ضخمة فقد حصلت في اعقاب انهيار الكتلة الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي وهذا الامر استدعى تغيير مجمل مفاهيم السياسة الامريكية وحتى تصوراتها الايدلوجية- ذات الطابع الستراتيجي، انه منظومة المؤسسات الفكرية التي تدير ماكنة السياسة الامريكية نرى ان امريكا حققت الفوز في مسار الصراع الذي اطلق عليه الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي، والنتائج لم تقتصر على صعيد السياسة او الانظمة فقط انما تعدت كثيراً وحسب في ابعاد التصورات المنتجة للمفاهيم التي تخص الحياة والتاريخ وحقائق اخرى، فظهرت امريكا الامبراطورية الوحيدة في العالم المنتجة للمفاهيم فيما يخص بنيان العلاقات الدولية ومنظوماتها الجديدة، ومنطق المؤسسات الفكرية والمعرفية انتهت "طبعاً ليست جميعها" الى ان الحياة او التاريخ استقر عند النموذج الامريكي، وهذا استدعى تصدير هذا النموذج الى بقية الانظمة الاخرى، ذلك لانه ليس هناك نمط للتاريخ يمكن للبشرية تدشينه لاحقا، لأن الاختيار والصراع حسم لصالح الليبرالية الجديدة والديمقراطية الامريكية، واطلقت على صعيد الابستمولوجيا مفاهيم جديدة للنظام الدولي الجديد لأعادة صياغة علاقات دولية جديدة. 

وتطور الأمر على صعيد الانتاج المعرفي والاستراتيجي الامريكي خصوصاً في عقد التسعينيات، وتبدلت الخرائط التي رسمت سابقاً، وخلال عقد التسعينيات حدثت جملة من المتغيرات الجذرية تنظم الامور والعلاقات وفقاً لاستقراء التاريخ ووفقاً لمستجدات المفاهيم الامريكية الجديدة. 

الحدث الضخم الذي اصاب الثوابت الستراتيجية الدولية الكبرى هو حادثة سنة -2001- في مركز التجارة العالمية بنييورك، لذلك اصبحت كل التطورات والمخططات الامريكية بمواجهة كل هذا الحدث الكبير وقد اسقط ظلاله وتداعياته على واقع العلاقات الدولية للمؤسسات الامريكية برمتها، فيما ان الخصم قد تغير، لذا اصبح من المحتم تغير اشكال التعامل مع طبيعة التشكيلات الدولية في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وهكذا اصبح من الضروري وفقاً للبيانات الامريكية تبني سياسات جديدة او بالاحرى تبديل يجري على مستوى كل المعادلات والمراجعة لكل التحالفات والمواقف من الاصدقاء والخصوم. 

وهكذا اصبح العالم يتحرك وفق خطاب دولي جديد، بل برزت مفاهيم بددت بعض السياقات المعمول بها في السابق والأمر الاخير فتم متناسياً نوعية المتغيرات والخصم الجديد، وتبديل المفاهيم، فمثلاً جرى تخطي الكثير من بنود ومقررات مدرجة على لائحة القوانين والمواد المعمول بها على مستوى الامم المتحدة والمنظمات الدولية الاخرى " منظمة حقوق الانسان" فبعض البلدان او انظمتها الحاكمة دخلت في خانة بلدان الارهاب، ناهيك عن ادراج الكثير من المنظمات السياسية في قائمة المنظمات الارهابية وبرز الارهاب كخطاب معياري يؤثر في شكل التعامل مع البلدان والعلاقات الدولية برمتها، فبعض فصائل حركات التحرر اصبحت في منظور السياسة الامريكية تحسب وفقا لتوصيف الارهاب الجديد. 

وهكذا جرت زحزحة في المفاهيم رافقها عمليات كبيرة تضاهيها في السرعة، فتم اسقاط النظام في افغانستان بمعونة حلف شمال الاطلسي وبقرار صعب من الامم المتحدة، اعقب ذلك اسقاط النظام في العراق دون العودة الى الامم المتحدة، تحت طائلة جملة من المبررات والذرائع الممهدة، منها، حيازة العراق لاسلحة الدمار الشامل... دكتاتورية النظام المتقاطعة مع ديمقراطية امريكا او نموذجها الجديد،.. وهذه الخطوة تعد المبادرة الاولى لتاسيس ما يسمى بـ "مشروع الشرق الاوسط الكبير" في متابعة التعامل الامريكي مع تفاعلات "القضية العراقية" على اساس اطلاق ما يسمى عراق جديد نرى هناك الكثير من المتغيرات المتعاقبة والخيارات في السياسة الامريكية فيما يخص هذه القضية والتي امتدت من لحظات السقوط الاولى. 

في سؤال الراهن والملح فيما يتعلق بمجريات التعامل مع القضية العراقية، هو هل تم تخطي او على الاقل التخفيف من تطبيق البراغماتيا الامريكية التقليدية في تحقيق المهمة المخطط لها؟... فكيف نفسر الرغبة الامريكية في مغادرة العراق سريعاً. فعلى السطح السياسي يمكن القول ان هذا يتناقض مع المنهج الاستعماري التقليدي، او ما يسمى بالاستعمار الاستيطاني والذي يكافح في سبيل الحصول على اطول فترة للمكوث في البلدان المستعمرة. فالكل بات يعرف ان الوجود العسكري ينتج اعباءً سلبية ومرهقة عن الاقتصاد والسياسة الامريكية. 

اما تفاعل "القضية العراقية" على صعيد الداخل الامريكي فهناك المزيد من المقترحات والتوصيات سواء في الكونغرس، البنتاغون، او الخارجية.. الخ. كلها تهدف الى تحقيق الحل المناسب فيما يخص "القضية العراقية"؟ يمكن الاعتراف ان جوهر السياسة الامريكية في الراهن يعمد دائما الى تبديل الخيارات المستمرة "وهو منهج براغماتي" وهذا المنهج في التبدل حتمية التشكل الجديد في مراكز القوى الدولية. 

والنموذج الذي اثار الكثير من اللغط والمزيد من التاويلات في الفترة الاخيرة هو توصيات تقرير- بيكر- هاملتون- والتي هي في جوهرها تاتي في سياق الستراتيجية الامريكية التقليدية، فالمهمة الامريكية في العراق لم تكتمل بعد، وهذا استدعى تغيير المسارات من جديد لتحقيق الامر المطلوب وحتم وضع كل الخيارات في سلة البدائل لأيجاد السبيل المناسب لتحقيق النجاح العملي لجملة المهام والاهداف، وهكذا نجد ان لامريكا ما هو معلن في الستراتيجيا وكذلك المخفي بعيد المدى، لذلك نجد مرونة التنقل ما بين المواقع. 

اذن ستراتيجياً امريكا لا تتقاطع مع المدخل الاول من هذا المقال للمفكر الامريكي "جومسكي" والذي اراد ان يدلل ان لاثبات مطلق في السياسة الامريكية، وان هناك راهناً ومستقبلاً المزيد والمزيد من الخيارات بغية تحقيق ما اريد للمهمة "العراقية". 

 

** الساقية صحيفة الكترونية مستقلة   **

** المدير العام رئيس التحرير : ميشان سيدي سالم أعلاتي **

    M_FICHAL@YAHOO.FR      

ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***   ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***  ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا