الديمقراطية والإصلاح السياسي - مراجعة عامة للأدبيات

للدكتور : محمد زاهي بشير

* كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة قاريونس

 

مقدمة

تمثل عمليات المقارنة محور جهود علم السياسة بصفة عامة، وحقل السياسة المقارنة بصفة خاصة، لصياغة نظريات تفسيرية عامة حول الظواهر السياسية المختلفة. ضمن هذه التقاليد، واجه حقل السياسة المقارنة أكبر تحدياته عند دراسة عمليات سياسية عديدة ومتشابكة في مجتمعات مختلفة، وعبر فترات تاريخية متباينة، وضمن سياقات متنوعة. كذلك، كان هناك انشغال دائم بضرورة إيجاد توازن بين الوقائع الإمبيريقية والفهم النظري، والربط بين معطيات الواقع والتحليل التفسيري. ويعتبر هذا الترابط الضروري بين الأدلة الإمبيريقية والتفسيرات النظرية أمرا جوهريا لحقل السياسة المقارنة، فبدون أدلة موثوقة لن يتيسر أساس للمقارنة وصياغة واختبار النظريات التفسيرية، وبدون نظريات تفسيرية وأطر تحليلية يصبح البحث عن الأدلة عملا عشوائيا واعتباطيا.

تركز هذه الدراسة على إحدى الظواهر السياسية الرئيسة في زمننا هذا، الديمقراطية والإصلاح السياسي. تهدف هذه الدراسة ، أساسا ، إلى استعراض الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع والمداخل النظرية التي وظفتها والتفسيرات التي قدمتها. بحسبان أن أدبيات الديمقراطية والإصلاح السياسي متشبعة ومتنوعة وتغطي مواضيع وقضايا متباينة، وبحسبان أن هذه الدراسة، بطبيعة السياق المقدمة فيه، لا تستطيع أن تتناول كل القضايا وجميع المواضيع التي اهتمت بها هذه الأدبيات ، كان من الضروري التركيز على عدد محدود من هذه القضايا والمواضيع التي يعتقد معد هذه الدراسة أنها الأكثر أهمية للديمقراطية والإصلاح السياسي ، الأمر الذي قد لا يتفق معه الكثير من المتخصصين والباحثين. ولكن هكذا هي طبيعة الاختيار في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تستند في جانب كبير منها على معايير وتفضيلات ذاتية لا يمكن التخلص منها ولا يجوز تجاهلها.

مثلت عمليات الدمقرطة أو التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. قبل ذلك، كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. بدلا من ذلك، كانت الساحة السياسية مليئة بأشكال مختلفة من نظم الحكم غير الديمقراطية التي تشمل نظماً عسكرية ونظم الحزب الواحد ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية.

في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان منذ 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية وبعض أجزاء آسيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي وبعض أجزاء أفريقيا في أوخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي (Huntington, 1991). الملفت للنظر أن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، والمنطقة العربية خصوصا، كانت الأقل تأثراً بهذه الموجة.

أثار هذا التباين في عمليات التحول الديمقراطي مجموعة من التساؤلات حول العوامل والأسباب التي تجعل هذه العملية أكثر انتشاراً في بلدان وأقاليم معينة ، وأقل انتشاراً في بلدان وأقاليم أخرى .

للإجابة على هذه التساؤلات تم تطوير مجموعة من المداخل النظرية التي حاولت تقديم تفسيرات لأنماط التحول الديمقراطي ، وعوامل وأسباب التماثل والتباين في عمليات الدمقرطة في مختلف البلدان والأقاليم.

من ناحية أخرى، يبدو من البيانات الإمبيريقية أن الديمقراطية ومؤسساتها قد ترسخت في حوالي ثلث الديمقراطيات الجديدة. فما سبب هذا المعدل المنخفض من تعزيز الديمقراطية؟ هل يرجع السبب إلى أنه لم يمر وقت كافٍ منذ بدء عملية الانتقال الديمقراطي؟ يمكن مقارنة هذه الديمقراطيات الجديدة بديمقراطيات جنوب أوربا الثلاثة - البرتغال، أسبانيا، اليونان- التي استهلت الموجة الثالثة للديمقراطية ، فمن الواضح أن الديمقراطية ومؤسساتها ترسخت في هذه البلدان الثلاثة خلال عقد من انهيار النظم التسلطية بها.

بيد أن هذا المعدل السريع للترسيخ الديمقراطي غير مألوف تاريخياَ ، حتى في ظل ظروف ملائمة. عادة، يتطلب تطوير المؤسسات الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وقتاً وجهداً كبيراً. على سبيل المثال ، ترسخت الديمقراطية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً عبر فترة زمنية طويلة استمرت لعدة عقود (Haynes, 2001, P.4).

الراهن أنه بينما كانت هناك درجة عالية من الابتهاج والتفاؤل في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين بأن العالم يشهد تحولاً حاسماً تجاه الديمقراطية ، أصبح الباحثون أقل تيقناً وثقة في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.

فبعد عقد من الدمقرطة السريعة ، تباينت آراء الباحثين حول احتمالات وفرص تعزيز الديمقراطية بشكل واسع. رأى البعض أن هناك أدلة على استمرارية التقدم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، وعلى ترسيخ الديمقراطية تدريجياً في العديد من الديمقراطيات الجديدة، مدركين في نفس الوقت بأنها عملية طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر والمشاكل (Karatnycky, 1999).

إلا أن البعض الأخر يزعم أن هناك أدلة على حدوث تقهقر واسع للديمقراطية في العديد من البلدان التي مرت في الفترات الأخيرة بعمليات انتقال وتحول ديمقراطي، حيث إن الديمقراطية لم تتجذر إلا في عدد قليل من هذه البلدان. في الواقع، يزعم الباحث السياسي دايموند أن هناك أدلة إمبيريقية قوية ليس عن فشل الترسيخ الديمقراطي فحسب، بل على حدوث أمر أكثر خطورة، بروز "موجة عكسية" بعيداً عن الديمقراطية وعودة إلى التسلطية (Diamond, 1999).

تحقيقاً للأهداف المحددة لهذه الدراسة، سوف يتم تناول القضايا والمواضيع التالية :

1. بعض المداخل النظرية التي حاولت أن تقدم تفسيرات لعمليات الانتقال الديمقراطي.

2. العوامل والتغيرات المؤثرة في عملية الدمقرطة.

3. الأنماط والأشكال المختلفة لعمليات التحول الديمقراطي.

4. العوامل والمتغيرات المؤثرة في عملية ترسيخ الديمقراطية.

وتختتم الدراسة بمجموعة من الملاحظات.

ينبغي، قبل البدء في تناول هذه القضايا، الإشارة إلى بعض الملاحظات:

أولاً : تقتصر هذه الدراسة على مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة دون الخوض في الأدبيات التي تناولت عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية ، بافتراض أن ذلك تغطية دراسات ومحاور أخرى من هذه الندوة .

ثانياً : تستخدم هذه الدراسة الدمقرطة والتحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي كمصطلحات مترادفة، وتعني عمليات التغير من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي .

ثالثاً : تستخدم هذه الدراسة ترسيخ الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وتجذير الديمقراطية كمصطلحات مترادفة، وتعني المرحلة التي تصبح فيها المؤسسات والممارسات والقيم الديمقراطية ثابتة ومستقرة في النظام السياسي .

أولاً: المداخل النظرية لتفسير الدمقرطة :

تبين مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة أن هناك ثلاثة مداخل نظرية رئيسة لتفسير عمليات الدمقرطة وأنماطها والعوامل والمتغيرات المؤثرة فيها.

1. المدخل التحديثي ، الذي يؤكد على عدد من المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية لعملية الدمقرطة، ويربط بين الديمقراطية الليبرالية والتنمية الاقتصادية.

2. المدخل الانتقالي ، الذي يركز على العمليات السياسية وعلى مبادرات وخيارات النخبة لتفسير عملية الانتقال من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي ليبرالي.

3. المدخل البنيوي ، الذي يهتم بأثر تغير بنى القوة والسلطة على عملية التحول الديمقراطي.

1. المدخل التحديثي :

لأول وهلة وظاهريا يبدو أن هناك معقولية ومصداقية للاتجاه الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية نظرا لأن أغني بلدان العالم هي بلدان ديمقراطية. ولقد كان آدم سميث، في كتابه ثروة الأمم أول من عبر عن هذا الاتجاه من خلال دعوته لليبرالية السياسية باعتبارها شرطا ضروريا للأداء الفعال للسوق الذي يعتبره محرك النمو الاقتصادي. بالنسبة لآدم سميث، فإن الحكومة التي تحكم أقل ما يمكن هي أفضل حكومة، فالحد الأدنى من الحكم يفضي إلى الحرية الفردية والمنافسة والكفاءة وإمكانات النمو الاقتصادي (AKE,2000:P.76) .

إلا أن المعالجة العلمية الأكثر دقة وانتظاما فيما يتعلق بالارتباط بين الديمقراطية والتنمية تبرز من خلال افتراضات وأطروحات عالم الاجتماعي السياسي الأمريكي "ليبست .(S.M Lipset) وقدم ليبست أطروحته لأول مرة عام 1959 في مقالته الموسومة "بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية". وفي عام 1960 نشر كتابه "الرجل السياسي،Political Man " الذي يعتبر أشهر وأهم كتاب حول هذه الأطروحة.

وفقا لأطروحة ليبست، ترتبط الديمقراطية بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لإبراز هذه العلاقة، قام بتصنيف البلدان الأوروبية والبلدان الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا إلى ديمقراطيات مستقرة وديمقراطيات غير مستقرة ودكتاتوريات. وصنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات غير مستقرة ودكتاتوريات مستقرة. ثم قام بمقارنة هذه البلدان وفقا لثروتها ودرجة التصنيع والحضرية ومستوى التعليم باعتبارها مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتبين من المقارنة أن البلدان الأكثر ديمقراطية في كلا المجموعتين كانت تتمتع أيضاً بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية أعلى من البلدان الدكتاتورية . استنادا على ذلك، أفترض ليبست وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية وبين النظام الديمقراطي .

كان هذا التطابق نتاجا لعدة متغيرات اجتماعية. عليه فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو مزيد من المشاركة، كما أنها تخفف من حدة التفاعلات السياسية وتخلق مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي. أخيرا فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بنمو وحيوية الحياة الترابطية والمجتمع المدني (Lipset, 1960, P. 31)

يعتبر كتاب الرجل السياسي عملاً رائداً مهما إلا أنه يعكس في نفس الوقت محدودية درجة تطور الدراسات الكمية ضمن علم الاجتماع السياسي في تلك الفترة. فلا توجد في منهجية الدراسة تحليلات إحصائية متقدمة، ولم تحتو على عمليات الضبط والعزل المناسبة لتحديد الأهمية الدقيقة والمحددة للمتغيرات. وعلى الرغم من عدم وجود إثبات للعلاقات السببية في تلك الدراسة، فإنه يبدو أن ليبست يفترض أن التنمية الاقتصادية هي التي أدت إلى الديمقراطية (Diamons, 1992: P.451).

لقد تعرضت هذه الأطروحة للدراسة والتمحيص من وقت لأخر باستخدام منهجيات أكثر دقة وصرامة وأساليب إحصائية متقدمة ومن أمثلة هذه الدراسات دراسة كولمان (Coleman, 1960) التي أثبتت وجود ارتباط واعتماد متبادل بين الديمقراطية والتنمية إلا أنها لم تثبت وجود علاقات سببية. كذلك فإن كترايت (Cutright, 1963) وجد ارتباطا عاليا بين مؤشر الاستقرار السياسي "وبين مجموعة من أربعة مؤشرات للتنمية وهى" تطور وسائل الاتصال والحضرية والتعليم والتصنيع". وقامت دراسات أخرى بمحاولة التحقق من العلاقات السببية التي افترضتها أطروحة ليبست الأصلية. فلقد توصل بولين وجاكمان ( Bollen and Jakman, 1985) إلى نفس النتيجة وذلك من خلال تحليل إحصائي متقدم لمجموعة من العوامل والمتغيرات التي تعتبر عادة من ضمن محددات الديمقراطية واكتشفا أن التنمية الاقتصادية هي المحدد الأكثر الأهمية من المتغيرات الأخرى مجتمعة. ولقد تم تأكيد ذلك في دراسة لاحقة قام من خلالها كل من ليبست وسيونج وتوريز (Lipset, Seong and Torres) بإعادة تحليل دراسات بولين وجاكمان.

من ناحية أخرى، قامت دراسات أخرى بمحاولة إثبات التأثير الإيجابي للديمقراطية على التنمية الاقتصادية، فلقد أشار جروسمان ونوح (Grossman and Noh 1988) إلى أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين مما يحفزهم على تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية لضمان استمراريتهم في الحكم. وفي إطار مشابه بين روبرت داهل في فترة مبكرة (Dahl.1971.) أن الديمقراطية تضمن قيام الحكام بتوظيف الموارد بالطريقة التي تحقق النمو والإنتاج الأمثل.ويرى اولسون (Olson, 1991) أن النظام الديمقراطي يلزم الحكام بتجنب السعي نحو تحقيق مصالح ذاتية أنانية ويفرض عليهم وضع السياسات العامة التي تحقق وتخدم المصلحة العامة ضمنا لاستمرار التأييد والقبول الشعبي .

قام بهالا (Bhala, 1994) بتقديم مدخل مختلف حول العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية. فهو يرى أن الديمقراطية شكل من أشكال الحكم يرتبط ارتباطا قويا بمفهوم الحرية، وقام باختبار العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية بجانبيها (السياسي والاقتصادي) بدلا من اختبار العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. ويرى بهالا أنه نظراً لأن الدراسات السابقة لم تقم بعزل تأثير الحرية الاقتصادية فإنها لم تقم بتقدير العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية السياسية بصورة مناسبة.

من ناحية أخرى، أشار بهالا إلى احتمالية الارتباط المتزامن بين التنمية الاقتصادية وبين الحرية، فلقد أفترض أن الحرية تفضي إلى تنمية اقتصادية أكبر والتي تؤدي بالتالي إلى المزيد من الحرية، ولقد مثل هذه العلاقة المتزامنة بنماذج رياضية وتوصل إلى أنه بغض النظر عن كيفية قياس الحرية وبغض النظر عن كيفية تعريف النمو، فإن هناك علاقة إيجابية وقوية بين الاثنين (Bhalla, 1994).

2. المدخل الانتقالي :

جاء التحدي المبكر والمهم لأطروحة ليبست، وللمدخل التحديثي بصفة عامة، من الباحث السياسي دانكورت روستو "Dankwart Rustow". ففي مقالته "Transition to Democracy, 1970"، أشار روستو إلى أن الارتباطات بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية التي افترضها ليبست وغيره كانت مدفوعة أساساً باهتمامهم بالعوامل التي تؤدي إلى استمرارية وترسيخ الديمقراطية. بيد أن اهتمام روستو وغيره من الباحثين يتمحور حول تساؤل مختلف هو كيفية تحقيق الديمقراطية في المقام الأول. ( Anderson, 1999, PP. 14- 17).

يزعم روستو أن النوع الأخير من التساؤلات والاهتمامات يتطلب مدخلاً تطورياً تاريخياً يستخدم منظوراً كلياً لدراسة حالات مختلفة بحسبان أن ذلك يوفر أساساً أفضل للتحليل من مجرد البحث عن الشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. حدد روستو، استناداً على تحليل تاريخي مقارن لتركيا والسويد، مساراً عاما تتبعه كل البلدان خلال عملية الدمقرطة، ويتكون هذا المسار من أربعة مراحل أساسية: (Ibid; PP. 26- 33)

أولاً : مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية، والتي تشكل خلفية الأوضاع "Background Condition"، ولا يعني روستو بتحقيق الوحدة الوطنية توافر الاجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.

ثانياً : يمر المجتمع القومي بمرحلة إعدادية "Preparatory phase" تتميز بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر إمكانية هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة وإنهاء الصراع السياسي لصالحها وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.

ثالثاً : تبدأ عملية الانتقال والتحول المبدئي في المرحلة الثالثة وهي مرحلة القرار "Decision Phase"، وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات وتبني قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي.

رابعاً : تأتي عملية الانتقال والتحول الثانية خلال المرحلة الرابعة، مرحلة التعود "Habituation Phase". يرى روستو أن قرار تبني القواعد الديمقراطية خلال "اللحظة التاريخية" قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة ورغبة هذه الأطراف في تبني القواعد الديمقراطية.

بيد أنه ، وبصورة تدريجية ومع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية عن مضض وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية. وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.

قام العديد من العلماء المهتمين بتفسير عمليات الدمقرطة بتطوير المدخل الانتقالي لروستو. ومن أهم هذه المحاولات دراسة جويلرمو أودونيل (G. O' Donnell) وزملائه (1986) المعنونة: "Transition from Authoritarian Rule"، ودراسة سكوت مينويرنج (Scott Mainwaring) وزملائه (1992) الموسومة: "Issues in Democratic Consolidation "، ودراسة يوسي شين (Yossi Shain) وجوان لينز (Juan Linz) (1995) بعنوان

"Between States: Interim Governments and Democratic Consolidation"

يميز جميع هؤلاء الباحثين بشكل واضح، مثلما فعل روستو، بين مرحلة الانتقال والتحول المبدئي من الحكم التسلطي (أي اللبرنة السياسية) وبين مرحلة ترسيخ الديمقراطية الليبرالية. ويرجع ذلك إلى أن عمليات الانتقال المبدئية قد تنجح أحياناً وتترسخ، ولكنها قد تفشل وتتعثر في أحيان أخرى.

تبدأ عملية اللبرنة السياسة داخل نظام الحكم التسلطي بتخفيف عمليات القمع والسماح ببعض الحريات المدنية. إلا أن هذه التحركات لا تؤدي، بالضرورة، إلى تحقيق الديمقراطية. فقد يتم إجهاض عمليات اللبرنة ويعود الحكم القمعي من جديد. بيد أنه ما أن تكتسب عملية اللبرنة دفعا وزخماً قوياً وجاداً ينخرط العديد من الفاعلين السياسيين في التفاعل التاريخي بين نظام الحكم وقوى المعارضة. بحسبان وجود متطرفين ومعتدلين داخل النظام التسلطي وبين المعارضين، فإن طبيعة التفاعل وشكله يؤثر على مسار ونواتج عملية الانتقال والتحول الديمقراطي. وتبين الأدلة المقارنة من أمريكا اللاتينية أن احتمال نجاح عمليات التحول الديمقراطي يتعزز إذا كانت هذه العمليات تحت سيطرة تحالف من المعتدلين في الجانبين. (Potter et al., 1997. P15).

خلال المرحلة الرابعة (مرحلة التعود)، تتضمن عملية الانتقال الثانية من حكومات مؤقتة ولبرنة سياسية مبدئية إلى ترسيخ الديمقراطية الليبرالية مسارات تاريخية متشابكة وتتسم بدرجة عالية من عدم التيقن. ويلعب الفاعلون السياسيون الملتزمين بالديمقراطية دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها خلال هذه المرحلة أيضاً. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتظافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل، أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. بفضل هذه المزايا، يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها).(O'Donnell, 1992, P.22).

الراهن، يزعم أنصار المدخل الانتقالي أن المسار التاريخي للديمقراطية الليبرالية يتحدد، جوهرياً، من خلال مبادرات وأفعال النخب وليس عن طريق بنى القوة المتغيرة. إلا أن مبادرات وخيارات النخبة لا تحدث أبداً في فراغ، حيث إنها تتشكل إلى حد ما بالبنى المجتمعية- مجموعة من القيود الطبيعية والاجتماعية، مجموعة من الفرص المتغيرة، مجموعة من المعايير والقيم التي يمكن أن تؤثر على محتوى واتجاه خيارات النخب.

3. المدخل البنيوي :

تستند تفسيرات المدخل البنيوي على عمليات التغير التاريخي الطويلة المدى. إلا أن هذا المدخل، وبخلاف المدخل الانتقالي، لا يفسر عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور وفعل النخب السياسية، بل يفسرها وفقاً لفكرة ومفهوم "بنى القوة والسلطة المتغيرة".

توجد في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكيل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويساهم، مع الآخرين، في استمراريتها. ( Giddens, 1993, PP. 720-1).

يستند الافتراض الأساسي للمدخل البنيوي على أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة - اقتصادية، اجتماعية، سياسية- تضع قيوداً وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات وتفاعلات بنى السلطة والقوة إلى مسارات سياسية أخرى. وبحسبان أن بنى السلطة والقوة تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن تفسيرات المدخل البنيوي لعملية التحول الديمقراطي طويلة الأمد.

تتمثل الدراسة الكلاسيكية للمدخل البنيوى في دراسة بارنجتون مور (Barington Moore) الموسومة (Social Origins of Dictatorship and Democracy) (1966) والتي تمحورت حول محاولة تفسير إختلاف المسار السياسي الذي اتخذته انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة (مسار الديمقراطية الليبرالية) عن المسار الذي اتبعته اليابان وألمانيا (مسار الفاشية) وعن المسار الذي اتجهت إليه روسيا والصين (مسار الثورة الشيوعية)، خلال عملية التحول التاريخي التدريجي من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية حديثة ما بين القرن السابع عشر ومنتصف القرن العشرين.

استندت مقاربة مور لهذا الموضوع على المقارنة التاريخية لهذه البلدان ، ليس في إطار مبادرات النخب ، بل في إطار العلاقات المتفاعلة لأربع بنى متغيرة للقوة والسلطة ، ثلاث منها كانت طبقات اجتماعية - الفلاحون، طبقة ملاك الأرض الأرستقراطية، والبرجوازية الحضرية- بينما تمثلت البنية الرابعة في الدولة.

تمثلت النتيجة الأولى التي توصل إليها مور إلى أن مسار وشكل الديمقراطية الليبرالية كان، بصفة عامة، نتاجاً لنمط مشترك من العلاقات المتغيرة بين الفلاحين وسادة الأرض والبرجوازية الحضرية والدولة. ووضع مور خمسة اشتراطات عامة للتنمية الديمقراطية (Moore ,1966,PP430-1)

1. تطور حالة توازن للحيلولة دون وجود دولة قوية أكثر من اللازم، ودون نمو طبقة أرستقراطية مالكة للأرض ذات استقلالية أكثر من اللزوم.

2. التحول نحو شكل مناسب من الزراعة التجارية.

3. إضعاف أرستقراطية الأرض.

4. الحيلولة دون بناء تحالف بين البرجوازية والأرستقراطية في مواجهة تحالف العمال والفلاحين.

5. انفكاك فوري عن الماضي بقيادة البرجوازية.

على العكس من ذلك، برزت الفاشية ضمن أوضاع كانت فيها البرجوازية الحضرية ضعيفة نسبياً واعتمدت على الطبقات الاستقراطية المهيمنة على الدولة لتمويل الزراعة التجارية. وحدثت الثورات الشيوعية ضمن أوضاع اتسمت بضعف البرجوازية الحضارية وخضوعها لهيمنة الدولة، وكان الارتباط بين سادة الأرض والفلاحين ضعيفاً، وفشل سادة الأرض في تحويل الزراعة إلى زراعة تجارية، وكان الفلاحون متماسكين وعثروا على حلفاء ذوي مهارات تنظيمية.

بيد أن تحليلات مور أغفلت بدرجة كبيرة دور العلاقات والتفاعلات الدولية وعبر القومية، بما في ذلك الحرب، في تحديد المسار الذي تتخذه البلدان المختلفة، كما أنه لم يعر اهتماماً كبيراً لتأثيرات نمو الطبقة العاملة أو البروليتاريا الصناعية. ولقد قام ديتريك روشماير (Dietrich Rueschemeyer) وزملاؤه (1992) بتلافي هذا النقص، وضمّنوا هذه العوامل في تحليلاتهم وتفسيراتهم البنيوية عبر قيامهم بتحليل تاريخي مقارن للبلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطي وبلدان البحر الكاريبي. على أساس هذا التحليل التاريخي المقارن، يزعم روشماير وزملاؤه بأن تحرك المجتمع تجاه الديمقراطية الليبرالية من عدمه يتشكل، جوهرياً، بتوازن القوة الطبقية، وأن الصراع بين الطبقات المهيمنة والخاضعة حول حقها في الحكم يعمل، أكثر من أي عامل أخر، على وضع الديمقراطية ضمن الأجندة التاريخية ويحدد احتمالاتها.

(Rueschemeyer et al, 1992.P 47).

تاريخيا، عملت الديناميات المتغيرة للقوة الطبقية على مقاومة عملية الدمقرطة أو على الدفع بها إلى الأمام. ولقد ميز روشماير وزملاؤه بين خمس طبقات على أساس مصالحها وتوجهاتها المختلفة تجاه الدمقرطة وهى طبقة كبار ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين والطبقة العاملة الحضرية وطبقة البرجوازية التجارية والصناعية والطبقة المتوسطة المهنية. من ناحية أخرى، فإن موقف وتوجه أية طبقة تجاه الدمقرطة لا يمكن تحليله بمعزل عن مواقف وتوجهات الطبقات الأخرى. فقد تعمل التحالفات الطبقية المختلفة في البلدان المختلفة على تدعيم عملية الدمقرطة أو عرقلتها.

كذلك، كانت تغيرات بنية وشكل قوة وسلطة الدولة عاملاً جوهرياً لعملية الدمقرطة، فلقد تعززت فرص نجاح عملية التحول الديمقراطي في الحالات التي لم تكن فيها الدولة قوية جداً أو ضعيفة جداً في مواجهة القوى الطبقية في المجتمع. من جانب أخر، أدت التنمية الرأسمالية، تاريخياً، إلى بروز مجتمع مدني قوي وإلى نمو الأحزاب السياسية كقوة موازنة لقوة الدولة. (Potter et al, 1997, P. 21)

الراهن، تستند تفسيرات المدخل البنيوى على الافتراض بأن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب. فعلى الرغم أن النخب السياسية تقوم بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.

الجزء الثاني 

 

** الساقية صحيفة الكترونية مستقلة   **

** المدير العام رئيس التحرير : ميشان سيدي سالم أعلاتي **

    M_FICHAL@YAHOO.FR      

ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***   ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***  ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا