مراجعة نقدية للعولمة

بقلم : السيد ياسين

مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية  

هناك إجماع بين المفكرين والسياسيين في مختلف أرجاء العالم على أن العولمة هي العملية التاريخية الكبرى التي تملأ الدنيا وتشغل الناس!

لقد مضت على انطلاقة العولمة وبروزها عدة عقود. وإذا كان من الصعب تحديد بداية تاريخية لهذا الانطلاق المشهود، إلا أنه يمكن القول إن بداية الثمانينات شهدت الموجة الأولى لها مرافقة في ذلك صعود الثورة الاتصالية، والتي هي إحدى مكوناتها الأساسية. لدرجة أن بعض علماء الاجتماع البارزين مثل »أنطوني جيدنجز« يركز في تحديد السمة الأساسية للعولمة على »الاتصالية« Connectivity. بمعنى أن العالم أصبح لأول مرة في تاريخ البشرية بكل وحداته أمما وشعوباً وثقافات وأفراداً متصلاً ببعض. بعبارة أخرى هناك موجات متتابعة لتدفق المعلومات والأفكار والسلع ورؤوس الأموال والقيم والبشر تغمر قارات العالم جميعاً بدون قيود أو حدود. لأن الثورة الاتصالية بحكم تعريفها نفسه عابرة للحدود ولديها القدرة على النفاذ إلى صميم المجتمعات المتعددة التي يزخر بها العالم والتي تسودها ثقافات مختلفة.

لقد أتيح لي منذ بداية التسعينيات أن أتعقب نشوء ظاهرة العولمة أثناء سعيي لإعادة صياغة إطاري النظري كباحث في العلم الاجتماعي بعد أن سقطت النماذج القديمة في العلاقات الدولية بانهيار النظام ثنائي القطبية، وبروز النظام أحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وفي السياسة بزوال عهد النظم السياسية الشمولية، والتي كان انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، علامة بارزة على نهايتها بالمعنى التاريخي للكلمة، وفي الاقتصاد بثبوت فشل اقتصاد الأوامر وتجارب التخطيط الاقتصادي الجامد الذي تقوده الدولة، وفي الثقافة بتهاوي المرجعيات الإيديولوجية التقليدية. عالم جديد بدأ يتشكل على أنقاض العالم القديم الذي هوى، وفي غمار البحث عن إطار نظري جديد يتيح لي أن أفهم العالم، اكتشفت العولمة، مفهوماً وظاهرة وكنت أطلق عليها في كتاباتي الأولى »الكونية« قبل أن نستقر على مصطلح العولمة، كما تبين لي أننا ننتقل فلسفياً وحضارياً من عالم الحداثة إلى آفاق ما بعد الحداثة، وفي العلاقات الدولية من العلاقات الثنائية إلى العلاقات متعددة الأطراف التي تأخذ شكل اتحادات تضم عدداً كبيراً من الدول كالاتحاد الأوروبي. ومنذ الثمانينيات دار جدل عالمى كبير حول العولمة والمنطق الكامن فيها، وتجلياتها المتعددة، وسلبياتها وإيجابياتها.

غير أن مرور عقود متعددة منذ انطلاقة العولمة في بداية الثمانينيات جعل الممارسة الفعلية لها أهم من الجدل النظري حولها. بعبارة أخرى التحليل النقدي لممارسات العولمة في السياسة والاقتصاد والثقافة جدير بكشف المدارات المختلفة لها، مما يسمح بالحكم على التقييمات النظرية المتضاربة التي حاولت إصدار تعميمات جارفة عنها، سواء على لسان أنصار الليبرالية الجديدة الذين زعموا أن الإنسانية اهتدت بالعولمة أخيراً باعتبارها الباب السحري الذي سيؤدي إلى التنمية المستدامة، أو بأصوات أهل اليسار والذين اعتبروها أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية المعاصرة!

زيارة جديدة للعولمة

ولو كنت أكتب باللغة الإنجليزية لعبّرت عن رغبتي في القيام بمراجعة نقدية للعولمة بالتعبير الإنجليزي المشهور الذي يستخدم في مثل هذه المراجعات وقلت، إنني سأزور العولمة مرة ثانية Revisited  بمعنى القيام بجرد شامل للموضوع من زاوية المصطلح والمفهوم والسياسات والممارسات.

ولا يعني ذلك أن الباحثين طوال الفترة الماضية توقفوا عن التأمل النقدي في أحوال العولمة، ولكن ما نقصده هو موجات البحث المعرفي الجديدة التي تطبق في استكشاف آفاق العولمة مناهج مستحدثة، وخصوصاً منهجية التحليل الثقافي.

وقد تكون رسالة الماجستير التي قدمتها الباحثة »آنا ديموتروفا« إلى المركز الدولي للدراسات العليا الدولية في يونيو عام 2002 بعنوان »تحدي العولمة« نموذج بارزًا لهذا النمط من الدراسات التي ركزت أساساً على مناهج الدراسات الثقافية والتي هي من أهم الإضافات النظرية والمنهجية في العلم الاجتماعي المعاصر.

ولكن ما هي الأسئلة الرئيسية التي سنطرحها في هذه الزيارة الجديدة لظاهرة العولمة؟

إن أغلب التفسيرات التي أعطيت للعولمة ركزت على أن العالم بفضلها أصبح أكثر تجانسا وتقنينا من خلال موجات تكنولوجية وتجارية وثقافية قادمة من الغرب. وكأن هذه التفسيرات تشير إلى أن العولمة هي ببساطة نوع من أنواع التغريب Westernization. غير أن هناك تفسيرات أخرى ترى أن العولمة هي عملية تهجين  hybridizationمما يفتح الباب أمام بروز خليط عولمي من القيم وأساليب الحياة والممارسات.

ويبدو أن الوصول إلى تأويل محدد لظاهرة العولمة مسألة بالغة الصعوبة، لأنها تتخذ مظاهر وتجليات متعددة بحسب السياق الذي تعمل في إطاره. فالعولمة في مجال الاقتصاد تعني عالمية العلاقات الاقتصادية من خلال توسيع الأسواق الرأسمالية. وفي مجال السياسة والعلاقات الدولية هي تعني زيادة كثافة العلاقات بين الدول ونمو ما يمكن تسميته السياسة المعولمة global Politics، وفي علم الاجتماع يتم التركيز على التغيرات الاجتماعية التي أحدثتها العولمة وبروز ما يطلق عليه المجتمع العالمي. وفي الدراسات الثقافية هناك اهتمام بالاتصالات العالمية وتأثيرها على الثقافة والهوية.

ومعنى ذلك أن الدراسة الشاملة للعولمة لا بد لها أن تتطرق إلى ميادين شتى، ليس ذلك فقط، ولكن بتطبيق مناهج متعددة. وربما لهذا السبب فإن المراجعة النقدية للعولمة تتطلب أبحاثاً متعمقة في مجالات التنظير المتعددة. فلا بد أولاً من التحليل اللغوي لمفهوم العولمة، ومن ثم ضرورة دراستها باعتبارها عملية Process  وأخيراً بحثها باعتبارها خطابا ً Discourse  في ضوء نظرية تحليل الخطيب، وقد يثير البعض سؤالاً مهما هو ما هي أهمية هذه السلسلة من الأبحاث الأكاديمية بمفاهيمها ونظرياتها التي تتسم أحياناً بالتجريد وأحياناً أخرى بالتعقيد؟

وفي تقديرنا أن أهمية هذه الأبحاث في كونها ستساعد صناع القرار والسياسيين بشكل عام والمفكرين والمثقفين وصناع الرأي العام وممثلي مؤسسات المجتمع المدني على اتخاذ مواقف نقدية من التجليات المتعددة للعولمة السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية. مما من شأنه أن يحدد اختياراتهم الاستراتيجية.

على سبيل المثال ترفع العولمة السياسية شعارات الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. ومن شأن هذه الشعارات أن تثير أسئلة شتى.

من أهمها هل هناك نظرية واحدة للديمقراطية الغربية يمكن تطبيقها في كل المجتمعات مهما تباينت ثقافاتها؟

وهل يمكن - في ضوء ممارسات العولمة في العقود الأخيرة فرض الديمقراطية من الخارج فرضاً، أم أنه لا بد لها أن تنبع من داخل المجتمعات؟ أم أن الحل الأمثل هو مزيج من مطالب الداخل وضغوط الخارج؟

سؤال آخر أليس هناك احتمال أن يستخدم شعار احترام التعددية كوسيلة استعمارية لتفتيت المجتمعات المتجانسة خدمة لمخططات الدول الكبرى؟

وفي مجال حقوق الإنسان لماذا لا نشاهد تطبيقاً منسقاً لها في كل البلاد؟، ولماذا تستثنى إسرائيل التي تمارس إرهاب الدولة ضد الشعب الفلسطيني مما يدل على وجود ازدواجية للمعايير؟

وفي المجال الاقتصادي هل صحيح أن العولمة تفتح آفاق التنمية المستدامة أمام جميع المجتمعات، أم هي متحيزة لصالح الدول الصناعية المتقدمة، وتتم عملياتها على حساب دول العالم الثالث؟

وفي المجال الثقافي هل نحن بصدد بزوغ ثقافة كونية حقاً تشترك في غزل خيوطها جميع الثقافات الحية المعاصرة.

أم نحن بصدد إعادة إنتاج للثقافة الغربية في ضوء المركزية الأوروبية Euro Centrism وأخيراً في العولمة الاتصالية هل حقاً ستشمل العالم بأسره أم أن الفجوة الرقمية الهائلة بين دول الشمال ودول الجنوب تشير إلى تعطل اتصالية العولمة؟ أسئلة متعددة لا يمكن الإجابة عنها إلا بالقيام بزيارة أخرى لظاهرة العولمة!

 

** الساقية صحيفة الكترونية مستقلة   **

** المدير العام رئيس التحرير : ميشان سيدي سالم أعلاتي **

    M_FICHAL@YAHOO.FR      

ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***   ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا    ***  ملاحظة مهمة : الرجاء من الزوار الكرام إعلامنا بكل الاخطاء الواردة في الموقع و ذلك من خلال الاتصال بنا عن طريق البريد الالكتروني .. وشكرا